(1)
إنها حياة .. إنها حياة ..
ترددها نبضات قلبه المتلاحقة .. تدفعها دفقات إلى عقله و إدراكه ..
إلى تلك اليد التي حفر بها الجهد أنفاقاً من الحكمة و المثابرة ..
كما حفرت فيه معان المخاطرة ..
إنها حياة .. يقولها كلما بلغ به النصب مبلغه ...
"إنها " ..
مع أول حرف من حروفها تجده ينسى معنى الذات و يمحو من تفكيره فكرة الألم أو ترنيمة الراحة ..
يقولها ويبتسم في مثابرة ولم لا تكون حياة ؟؟
نعم هو أبعد ما يكون عن السماء وبروجها أو الحقول وثمارها أو حتى حزمة رقيقة من الأشعة الخجلى الفارة من قافلة الشمس المستقيمة ..
لكنها حياة .. وتستحق ما هو أكثر من ذلك ..
لايشعر بالوحشة أبدا , فرفاقه هنا معول صغير وهم عريض وصبركبير وعائلة من الشموع ..
إلا أنه سعيد مع إنه سائر في مشوار لم ينتهي منذ شهور .. شهور مرت عليه كتعاقب الدهور ..
"
خطر ذاك العمل" ..
هكذا يقولون عنه ..
لكنه لايرى فيه أية خطورة ..
يتسائلون عن حفر القبور و الفائدة منها ..
يدفعه ذلك للقهقهة في داخله ..
يالغبائكم ..
وهل في الكون قبر يستطيل كلما مكثت فيه ؟؟
وإلا فمن أين يأتيهم الطعام والغذاء والكساء ؟؟
أوليست تأتي من تلك القبور ؟؟
أوليس تحريرهم منها ؟؟
أوليست تلك القبور سبيلهم للعالم الآخر عالم يدعي ساكنوه أنهم من نفس جنسه .. بل ويدعون أنهم أهله وأحبته وإخوانه المقربين !!..
"
هيه " ....
يقولها لافظا نفسا حارا من جوفه المتأجج بنيران الطفولة التى لم تجد لها
لُعبا إلا حجارة تقذفها و سحائب من السواد تستنشقها ونيران الشباب الممتلئ
بفراق الأصحاب و الأحبة ..
تتثاقل على جبينه دفقات العرق و تتتابع دقات قلبه بتصاعد غريب ..
يعتدل على جانبه متوجسا .. ناظرا إلى تلك الظلال على جداره الترابي . ..
يرى فيها ابنته الصغيرة تجري حاملة كراسها الصغير ودمية تصحبها ..
لكن دقات قلبه لا تتوقف عن التصاعد ..
أيكون السبب في ذلك الظل الخاطف الذي تغشاها ؟؟
أم تراقص أضواء الشموع النحيفة ؟؟
يلين مرة أخرى لرؤية فتاه الحبيب الذي
طالما تغيب عن الرجوع إلى بيته .. لكن ما سر تلك الدموع على وجهه ؟؟..
يتمتم داعيا له بالصلاح ..
تتشوه صورة الظلال على الحائط ماحية صورة ابنه ..
قلبه لا يزال ينتفض .. قرع نبضات قلبه في أذنه كقرع طبول الحرب ..
تبا لتلك الشموع وتبا لذاك الظلام ..
يحكم قبضته على معوله و يواصل الخدش في صمود الأرض ..
لا وقت للشرود ولا مكان للنفس ..
"
إنها حياة ..إنها حياة "..
يقولها و يكمل ..
لكنه يتوقف عن الحفر بغتة ، فلقد حل بجداره وجه الحبيبة متبسما ..
وجه شريكة العمر وأمه قبل أن تكون أما لأولاده.. يرى شفاهها تتحرك ومعها تتزلزل الأرض ..
يحاول ان يميز صوتها لكن صوت الهزيم المرعد لا يتوقف عن الصراخ ..
يحاول أن يقرأ شفتيها لكن تشقق السقف من فوقه وتساقط الأتربة يحول دون ذلك ..
يلتفت خلفه بسرعة ليرى عمل شهور يتساقط أمام عينيه ، و يُدك دكا دكا ..
يلتفت مرة أخرى إلى الجدار مطمئنا باسما يصغي بعينيه إلي شفتيها ، ثم يبتسم في رضا ..
لقد أدرك ما تقول وميزه ..
ولإن سألته لم التبسم لقال :
" لأنها
حياة " ..
(2)معلقا في الهواء في ساحة بيته .. حوله آلاف الوجوه ممن عرفها والتقاها لقاء
المار في زحام الشوارع.. كلهم تتجمد الدموع في أعينهم وتكتسي نظراتهم
بالتشفي ..
يزداد جسده في الارتعاد ..
دبيب لعين يسري تحت جلده ..
وصوت مقيت يرج المكان ..
" تيك " ...
يتبعها ذلك الـ "
توك " بحزم وقسوة ..
يحرك أقدامه في عبث لكن لا فائدة .. القيد محكم ..
و الصوت يتعالى في تحد ..
القيد يضيق ويضيق ...
يحاول أن يتلمس العفو من تلك العيون المتشفية ..
لكن لا جدوى ..
إنها سيموفونية العدالة تعزف آخر ألحانها بهدوء بطئ ..
"
تيك"..
الحبل يزداد سمكا و يواصل الإلتفاف عليه ..
النشر يزداد في عظامه و أوصاله ..
القيد يزداد إحكاما ..
"
توك" ...
يلفظ أنفاسه كرات من الدم مختلطة ببضع أقراص غريبة المنظر ..
يعتصره الألم ثم ينتفض ليجد نفسه لا يزال في غرفته على سريره ...
يحدق مليا في سقف الغرفة لكن الغرفة تتضايق عليه بجدرانها ..
...
سحقا لها من كوابيس وهلاوس .. يقولها لنفسه مصبرا , لكن ذلك النشر لا ينفك عن التوقف ..
يزداد شراسة وقسوة مع كل دقه من دقات قلبه ..
مع كل حركة لعقرب الساعة ..
ما أقساها من حياة ..
متجرعا مرارة معاناته ينهض باحثا في ملابسه عن آخر قرص ..
يتهلل وجهه في سعاده وترتعش أنامله كعصفور أغرقته الأمطار ..
فالمعاناة على وشك الانتهاء ..
يجد العُلبة ..
جاهدا يفتحها ..
سريعا يسقط على ركبتيه باكيا ..
"
إنها فارغة " ..
يدور بعينيه في غرفته .. لقد كان دوما يحتفظ
بالبديل ..
تقع عيناه على هاتفه الخلوي ...
يمسكه بلهفة و يجري محادثة ابتدأت بالتوسل فالبكاء فالإنتحاب ..
"
أنت لم تعد تجدي نفعا "..
هكذا قال له محدثه مذكرا إياه أنهم ليسوا بالمنظمة الخيرية ولا جمعية المخدرات في يد الجميع ..
إنهم سيادة وقوة ولا يحبون الفشل ..
"
كل الأقراص الفائتة أخطـأت اهدافها ..
إحداها مدرسة ، و الآخر زفاف ، ولم تصب منصة إطلاق واحدة ، أو هدف ثمين ..
لن تأخذ حصتك إلا إذا أتممت واجبك " ..
يثور مهددا إياه بكشف شبكته و قيادات أخرى حساسة .. لكنه مالبث إلا أن
اعتذر وتوسل إليه مؤكدا أنها زلة لسان في لحظة غضب وأنه يدين له بالإخلاص
..
يستمع بعمق لمحدثه ...
يحاول أن يخبره أن لا حاجة له الآن في الفاتنات و السهرات الحمراء .. أو حتى تلك الأوراق الخضراء ..
كل ما يحتاجه هو علبة واحدة من الأقراص تعينه على أمره وعلبة من الأقراص الأخرى ليثبت لهم ولائه ..
ينتهي من حديثه ليشق طريقه نحو هدفه خارج مسكنه الحقير..
سيُفعِّل الأقراص ليحصل على علبته ..
هكذا انتهىت محادثته بذلك الإتفاق
..
يقلب عينيه في وجوه المارة التي لا تختلف عن من يراهم في كوابيسه ..
نظراتهم تخترق كيانه .. تفضحه .. تجعله كورقة بيضاء خط فيه بلون الظلمة كلمة واحدة "
خائن " ..
يلتفت يمنة ويسرة قبل أن يسلك ذلك الطريق الوعر .. تصاحبه مخاوفه من
المجهول ... تصاحبه كوابيسه وذكريات الماضي .. منذ أن التحق بالأمن الوقائي
.. وبدأ بالانخراط في هذا السلك ..
منذ أن اكتشف أنهم مجموعة من المتواطئين ..
منذ سافر لتلقي الدورات في امريكا وانجلترا .. دورات تتكلف الآلاف للفرد الواحد .. دورات تجعلك سيفا حادا ولكن لنفسك ولطغمتك فقط ..
لكن هذا السيف لم ينجو من السقوط لم ينجو من الوقوع في شراك الرذيلة ..
ابتدأ الامر بعشاء في أحد المقرات عندهم ثم حفل راقص .. ثم ليلة حمراء ..
فإدمان فتهديد بأشرطة فتعاون وإلا فُضِح و النهاية معروفة ..
رمي بالرصاص ليلحق جثمانه بقافله الكلاب في مزابل السِيَر ..
ينقطع حبل الذكريات بوصوله لمكان الأقراص ..
ينحني على الأرض ملصقا أذنه بها .. يمعن السمع لتلك الدقات الخافتة ..
لاشك أنه نفق آخر ..
يلتقط القرص .. ويضغط عليه ليسمع ثنائي الفزع ..
"
تيك توك " ..
يهم سريعا بالإنصراف فلا يجب عليه التواجد أكثر من عشر دقائق وإلا هلك في القصف ..
الآن لا يفصله عن الراحة من معاناته الا أخذ حصته من المخدر ..
سحقا للمخدر .. وسحقا لهم وسحقا للوقائي ..
هو لا يهتم إلا بنفسه فقط ..
لا يهتم إلا بحياته ..
فلكم ردد دوما "
إنها حياة .. مجرد حياة ولا حياة بعدها فلم نضيع لحظاتها"
تذكرها فرددها في فضاء الأسى ..
مترنحا تتقاذفه الرياح الغاضبة
إنها حياة ..
لفظ بها لسانه وقلبه الأسود ينكرها ..
إنها حياة ..
قالها ليدرك أن هناك شيئا ما خاطئ
أسرع في خطاه ، وبدأ بالركض
لكنه كان للتو قد مر من هنا ..
أصغى بسمعه لأزيز السماء ، ونظر على الأرض ليدرك أنه لا يزال في مكانه وأن هلاوسه قد خدعته ..
يزداد الأزيز .. و تهدر الطائرات و تهطل عليه القذائف وهو في هستيريته مازال يصرخ ..
" إنها
حياة "
(3)البعض يرى دوما أخته الصغرى مصدرا للإزعاج والمعاناة ... خاصة إذا تغيب
الأب لظروف العمل أو لظروف أُخر ، أو كانت الأم من مصاحبي المرض ومرافقيه
...
"
جهاد" أطعم أختك..
"
جهاد" احمل أختك ..
"
جهاد" أوصل أختك إلى المدرسة ...
جهاد ..
جهاد ..
جهاد .. تتكرر في اليوم أكثر من خمسين مرة وكلها تتعلق بأخته حتى أصبحت حياته مقسمة ما بين جهاد وبينها ..
لكن الغريب انه مختلف عن سائر الفتيان ، فقد أحبها من كل قلبه ..
ولم لا وهو الرقيق اللطيف مرهف الحسن .. الذي كان يقول "
أنا لا قلب لي .. إنما هي "حياة " من يدفع الحياة في عروقي" .. ..
أحيانا كان ينظر لها في حزن .. يشعر كما لو كانت في خطر .. يشعر كما لو كان يوما ما سيعجز عن حمايتها ..
يقطع تلكم الأفكار السوداء ألم عنيف يدفعه للضغط على صدره بقوة و الهروب من
عيون الناس حتى لا ترى دفقات الدموع المترقرة من بين رموشه ..
ولو رأيته وأخته لظننتهما أميرين من قصة أسطورية ..
توأمان أحدهما استطال في البنيان حتى بلغ الثامنة عشر من العمر و الآخر لم يزل في أعوامه الستة
هي البراءة تمشي على قدمين ..
وهو الرقة إذا إعتمرت الإصرار ..
ينتظر دوما حتى يطمئن عليها قبل أن تنام ثم يولي متسللا بعيدا عن الأنظار ليلتقي رفقته ..
يلهون ببعض الصواريخ الصغيرة التي يراها البعض عبثية بينما يرونها وعدوهم أشد من السياط في لهيب الهجير المشتعل ..
لا يريد أن يُحمل أحدا مالا يحتمل ، فلا يريد لأباه المنهك أن يرشف كؤوس القلق إذا تأخر ليلا ..
لا يريد لأمه أن تبكي خوفا عليه..
لا يفعل ما يفعله إلا من أجلهم ودينهم ومن أجل "
حياة " ..
لا يبتغي من وراء ذلك أجرا ولا شكورا ..
.
.
كثيرا ما ينهي مهمته ليلا ليعود ويجد والده في انتظاره .. قد اشتعل قلبه قلقا عليه ..
يدور الحوار الذي ألفه ..
أين كنت ؟؟..
لا يرد ..
أين كنت يا
جهاد ..
لا يرد
جهاد .وينظر إلى الأرض فهو لم يعتد الكذب ..
يمسك أبوه كتفيه و يوبخه .. و يكيل له كلمات النصح الممزوجة برحيق الأبوة ..
"
إياك ورفقة السوء يا بني .. أنت أملي في هذه الحياة" ..
ينظر في عينيه بشدة قائلا بحزم جملة يعرف معناها جيدا ..
أنت جهاد يا جهاد ..
و اليوم ككل يوم سيأخذ "
حياة " إلى مدرستها الصغيرة .. ثم يعرج على رفقته لساعة أو ساعتين .. ثم ينطلق ساعيا في رزقه منتظرا موعد خروج صغيرته من مدرستها ...
يحملها كما تحب على كتفيه ..
تطوح بقدميها الصغيرتين فوق صدره وهي
تغني له بصوت طفولي جميل
"
صباح الخْير يا بلادي ياوردي نوَّرَت نيسان
صباح الخْير لاجروحك يادَمك زَينِ الحيطان
صباح الخير ليك طالع يواجه قوة الطغيان
صباح المجد يالي انتا إلو عنوان " ..
لا يبالغ إذا حينما يقول أنه بلا قلب و أنها قلبه ..
صوتها محفز له دوما لكل عزم ..
ضحكتها هي أقصى معاني السعادة عنده ..
يفارقها على مضض عند بوابة المدرسة...
كم تمنى لو كان في صفها المدرسي يقاسمها مقعدها الصغير ..
لكنها أمان بعيدة يطرحها عن ذهنه مكتفيا بذلك القدر من السعادة .. راضيا بتلك القبلة الرقيقة على خده وذاك الحضن الصغير الكبير ..
ينظر في ساعته ، ويملؤ صدره بهواء الصباح ويجد في مشيه نحو أصحابه ..
يردد أغنيتها دون إرادة ..
يدندن بصوته العذب
"
صباح الخير يا بلادي ياور.."
لا يكمل لأن لحنا
نشازا قد أفسد عليه دننته ..
أأزيز هو .. أم هزيم أم عواء الشياطين ؟؟..
لا يدري ..
يسرع في خطوه و يبدأ في الركض ..
يسمع دفقات الرصاص تهبط من لا مكان .. تمطر الحمم في غضب كما لو كان الجحيم يدمي..
لكنه لم يلتفت لكل هذا لم يلتفت إلا لشئ واحد رفقته هم من يُقصفون ..
يالله ما هذا الألم .. لماذا لا يتحمل قلبه ؟؟..
يستحيل الركض عدوا والعدو قفزا حتى أدركهم هاله المنظر..
كانوا منذ قليل بشرا .. والآن لم يتبقى من أحدهم شيئ ..
أين
باسل و أين
حازم و أين
نضال ..
"
ارتقوا وتركوني" ... هكذا قالها .. ولها ذرفت دموعه ..
لأنهم تركوه .. ولأنهم ذهبوا على حين غرة ..
ذهبوا بفعل قرص خائن لا يتعدى في حجمه عقلة الإصبع ..
تبا للخيانة وسمها الزعاف ..
"و
الله لأجدنه
والله لأ.."
لم يكملها لأن القصف انتقل إلى الجزء الآخر من البلدة ..
امتشق سلاحه .. و بدأ في العدو .. لايأبه لقلبه الصغير المنهك .. أو حتى بيان هويته للناس حاملا السلاح..
لم يلتفت خلفه ، فلقد غاب عقله وتحكمت عواطفه في روحه الثكلى ..
لا يدري أوصل عدوا أم زحفا أم حتى حملته الرياح ..
كل ما أدركه أنه واقف أمام جموع الناس عند البناء المهدم ...
إندفع وشق الصفوف الحزينة ليجد قدميها الصغيرتين
ليرى جدائلها القصيرة .. ليرى وجهها الأنور ..
ليرى رأسها بلا جسد ..
تشوهت في عينه الصورة كالناظر من تحت سطح الماء ..
سقط أرضا ممسكا بصدره ..
ليس لضعف قلبه فلقد قالها آنفا
"
أنا لا قلب لي " ..
بل لأنها رحلت ..
و لأنها "
حياة " ..
انزلاق غضروفي ..
هكذا أخبرها الطبيب .. هكذا و بكل بساطة تتقيد حريتك .. تنتقل من اصحاب
المدى الكامل .. إلى أصحاب المدى المحدود .. لكنها لم تهتم .. ولم تحزن ..
لأنها من أصحاب القلوب الراضية .. ولأن مثل هذه الأشياء من التوافه التي لا يُنظر إليها في مثل وطنها ...
تتحسس قدها .. و تترك النسائم الرقيقة لتدفعها نحو ذلك المطعم المكتظ ...
هي نفس النسائم التي حملتها يوم أن زُفت عروسا لحبيبها ..
نفس النسائم التي داعبت برقة شعر ابنتها الصغيرة ..
تقترب من المطعم المكتظ ... و ترى لافتته الغريبة بحروفها المقززة ...
" ..
فهمتها رغم اختلاف اللغة ...
فمن في عمرها ومن لاقى مالاقت لا بد له و أن يفهم مثل هذه اللغة ..
أليست تراهم كل يوم وتسمع حديثهم ...
ألم تفتح عينيها طفلة لتجدهم يهدمون منزلها .. فكيف لها لا تفهم لغتهم ...
تتعثر في حجر في الطريق .. يشتعل ظهرها ألما .. لكنها تتصبر و تعض على
شفتها .. فمثلها كان ممن يريحه أهله و يكرمه .. خاصة بعد ظروف إصابتها ..
تكمل خطواتها و هي ترمق ذلك الملتقى برواده ..
قبعات سوداء و أخرى قد تقلصت ..
جدائل ..
لحى كثة ...
وفتيات قد انحسرت ثيابهم..
أو ضاقت عليهم بشكل مستفز ...
غريب أن تجتمع الفاتنات و اللحى !! ..
هكذا قالت في نفسها و تبسمت ..
فليس ذلك بالأمر الغريب وحده وإلا فما هو شعورك وأنت ترى ذلك الجمع الغريب الذي يذكرك بأطلس خرائط العالم ؟؟؟
يقطع استغرابها و بسمتها منظر هذه الأسرة الصغيرة ، فلقد كانت لها أسرة مثلها ..
هي لم تدخل مطعما مثل هذا من قبل .. لكن اجتماعها مع زوجها وولدها و طفلتها الصغيرة كانت هي لحظتها المنتظرة كل يوم ..
عندما تنظر في وجه زوجها وترى ذلك التعب على وجهه الدال على رجولة طاغية تأبى السؤال أو حتى استعطاف الناس ..
عندما تنظر في وجه ابنها .. وترسم بأحلامها المختلطة بأبخرة الحساء ملامح أطفاله الصغار ..
وعندما ترى وجه ابنتها البرئ تضحك و تتسائل من ذا الذي سيفوز بقلب هذه الفتاة عندما تكبر ...
تعود من ذكرياتها على ذلك الوخز في ظهرها .. تمسك بمعطفها و تعدل وضع حزامها على قدها ،
وتكمل المسير متجاهلة السعادة المنبعثة من وجوههم ..
متجاهله ضحكاتهم ..
متجاهله دعاباتهم ..
متجاهله كل ذلك ..
فلقد تجاهلوه قبلها ..
عندما هدموا بيتها في صغرها..
عندما قتلوا زوجها مقبورا في نفق ..
وعندما مزقوا ابنتها لأشلاء ..
وعندما سلبوا الحياة من قلب ابنها ..
وعندما وعندما ..
هي لا تجيد العد ..
هي ما أتت للجدال او النقاش ..
هي أتت لإيصال رسالة راقية بلغة القوم التي لا يفهمون غيرها ..
..
..
تدخل حتى تنتصف ملتقاهم و تضع يديها في معطفها بهدوء لتعدل من وضع حزامها و لتحكم قبضتها على ذلك الزر الصغير ..
تبتسم في وجهه بسعادة بالغة..
ثم تكبس الزر ..