فرغ الوقت، ولم يعد هناك فرصة للبكاء علي اللبن المسكوب، فبعد أسابيع محدودة يحل موعد الاستفتاء علي حق تقرير المصير لسكان جنوب السودان, في التاسع من يناير المقبل.الذي سوف يكون في الأغلب مجرد تاريخ لإشهار انفصال الجنوب عن الشمال, الذي أصبح حقيقة تفرض نفسها علي أرض الواقع منذ الانتخابات السودانية التي جرت في أبريل العام الماضي, وكرست سيطرة حزب المؤتمر المنفردة علي الشمال, كما كرست سيطرة الجبهة الشعبية المنفردة علي حكم الجنوب, بعد أن فشل الجميع, عمدا, في أن يجعلوا من وحدة السودان عنصرا جاذبا لسكان الجنوب!.منذ هذا التاريخ تواري خيار الوحدة, وأصبح الانفصال أمرا واقعا, وها نحن نشهد الآن رحيل أو ترحيل آلاف الجنوبيين من الشمال الي الجنوب علي نحو جماعي، حيث يوجد في الشمال ما يقرب من2 مليون من أبناء الجنوب, بينهم الآلاف الذين ولدوا وعاشوا ودرسوا وعملوا هناك طول حياتهم, لكنهم يضطرون الي الرحيل الي الجنوب الآن كي يسجلوا أسماءهم في قوائم الاستفتاء في قراهم الأصلية بعد أن رفضت حكومة الجنوب أن يتم استفتاؤهم في الشمال, وأكدت حكومة الشمال, علي الجانب الآخر, أنها سوف تمتنع بعد الاستفتاء عن تقديم أي خدمات لهم حتي إن تكن حقنة دواء, يرحلون في مشهد مأساوي لا يؤكد فقط أن الانفصال واقع لا محالة, ولكنه ينذر بخطورة تدهور الأوضاع بين الشمال والجنوب الي حدود الصدام الأهلي, ويجعل من حدث الانفصال بداية لمرحلة من العداء بين الدولتين السودانيتين, برغم كثير من الوشائج والمصالح والروابط المشتركة التي تفرض عليهما أن يكون انفصالهما بالمعروف, يحافظ قدر الإمكان علي علاقات طيبة بين سكان الشمال وسكان الجنوب الذين لايزالون يحملون جنسية السودان الواحدة, دلالة علي هوية مشتركة يصعب تبديلها, ويرتبطون معا بمشكلات عديدة معلقة تتعلق بالحدود والبترول وحركة القبائل شمالا وجنوبا التي يصعب تقييدها وقضايا الدين والعلاقات مع العالم الخارجي, وجميعها يتطلب تسويات سلمية ناجحة يضمن تنفيذها آليات عمل صحيحة تحقق مصالحهما المشتركة, تعذر الاتفاق عليها بين الجانبين قبل أن يحل موعد الاستفتاء الذي اعتبره الجنوبيون تاريخا مقدسا ينبغي الوفاء به مهما يكن حجم هذه المشكلات.ومع الأسف, فإن صيغة الاستفتاء علي حق تقرير المصير التي سوف يجري العمل بها يوم 9 يناير المقبل, لا تحمل خيارا ثالثا سوي الانفصال أو الوحدة، ولا تضع في حسابها تداخل المصالح المشتركة التي كان يمكن أن يضمن تواصلها صيغة ثالثة تحافظ علي السودان موحدا، وتدعو الي الكونفيدرالية بين دولتين شقيقتين.وأظن أن هذه الصيغة كانت مقصودة لذاتها, أصر عليها الجنوبيون الذين اعتبروا الانفصال غايتهم الأخيرة, خاصة بعد مقتل جون قرنق زعيم الحركة الشعبية, يساندهم في ذلك الأمريكيون وغالبية دول الاتحاد الأوروبي الذين كانوا أكثر الجميع حماسا لتقطيع أوصال السودان, وفصل شماله عن جنوبه علي نحو يقطع كل الوشائج ويضع خطوطا فاصلة بين الشمال بهويته العربية والعمق الإفريقي بهويته الزنجية, ومع الأسف لقيت هذه الصيغة قبولا إن لم يكن ترحيبا من الشماليين, حكام الخرطوم في فترة حكم البشير ـ الترابي الذين اعتبروا الجنوب عبئا علي الشمال يعطل وجوده فرصة قيام الدولة الإسلامية.وقد يكون الوقت مبكرا لمحاكمة الظروف التاريخية التي جعلت الانفصال هو الخيار الوحيد المتاح أمام الجنوبيين, لكن ما من شك في أن الجانب الأكبر من المسئولية يتحملها نظام حكم البشير ـ الترابي بفكره العقائدي الذي اعتبر الحرب مع الجنوب جهادا يفرضه الدين كي تصبح الشريعة هوية الدولة الإسلامية في السودان, متجاهلا ضرورات التنوع الثقافي والديني والعرقي في أكبر دولة إفريقية وأحقية الجنوبيين في أن يكونوا جزءا من هوية السودان الإفريقي.صحيح أن الانجليز زرعوا بذور الفتنة بين شمال السودان وجنوبه في بداية القرن الماضي, لكن التفاف غالبية الجنوبيين حول حق تقرير المصير للجنوب تم في فترة جد متأخرة, عندما شعروا أن الاختيار العقائدي لنظام حكم البشير ـ الترابي يصادر علي حقوقهم في المواطنة الكاملة, ويهمش هويتهم الإفريقية, وفي كل الأدبيات التي صدرت عن الزعيم الجنوبي جون قرنق عندما قاد حركة تمرده الأولي تحت اسم انيانا واحد, كان الهدف المعلن للحركة الشعبية هو التوافق علي حكم ديمقراطي يساوي في الحقوق والواجبات لكل المواطنين بصرف النظر عن اللون أو الجنس أو العرق أو الدين, ويحترم حق التنوع, ويفصل بين الدين والدولة, ويلتزم المعايير الدولية لحقوق الإنسان, ويؤمن بالسودان بلدا إفريقيا في هويته يتواصل مع الشمال العربي والعمق الإفريقي الزنجي, لكن ما من شك أيضا في أن جميع القوي السياسية في السودان تتحمل جانبا من مسئولية الانفصال, لأن الجميع رحبوا بحق تقرير المصير دون تحفظ علي أمل أن الوحدة سوف تكون خيار الجنوبيين عند الاستفتاء وأن الفترة الانتقالية ما بين توقيع اتفاق نيفاشا وإجراء الاستفتاء التي تطول الي ستة أعوام سوف تكون كافية لمداواة جروح الحرب الأهلية وجعل خيار الوحدة الأفضل بالنسبة للجنوبيين, وفي هذه الفترة القلقة كانت مصر وحدها هي التي تعارض حق تقرير المصير للجنوب خشية أن يؤدي الي انفصاله.وبدلا من أن تكون الفترة الانتقالية فترة تواصل وحوار بين شريكي الحكم, المؤتمر والجبهة الشعبية, لإقرار نظام جديد لحكم السودان يلتزم معايير الديمقراطية الصحيحة يتوافق عليه كل الأطراف السودانية في الشمال والجنوب, تحولت السنوات الست الي فترة استقطاب حاد, الشمال تحكمه الشريعة والجنوب يحكمه نظام علماني طبقا لبروتوكول ماشا كوس, والاثنان يقتسمان عائدات البترول مناصفة, وينفقان الجزء الأكبر منها علي تسليح قواتهما المسلحة, والمعارضة مهمشة هنا وهناك, وزاد من حدة الاستقطاب توجهات رئيس حكومة الجنوب سلفا كير الذي لم يعد يخفي انحيازه العلني الي انفصال الجنوب مطالبا الأمم المتحدة بإنشاء منطقة عازلة بين الجانبين, في الوقت الذي بقيت فيه مشكلات ترسيم الحدود وقسمة الدين والخلافات حول منطقة أبيي عالقة دون حل.ولأن معظم التوقعات تؤكد أن الاستفتاء سوف يتم في موعده لأن البديل هو تجدد الحرب الأهلية وإخضاع السودان لمزيد من العقوبات الدولية, وأن الانفصال واقع لا محالة, تتركز معظم المخاوف حول الاحتمالات المتزايدة في أن يأتي الانفصال وسط أحداث عنف تدمر وشائج المصالح المشتركة بين الجنوب والشمال, وتزيد الأوضاع في شمال السودان سوءا, وتعرقل فرص الوصول الي تسوية سلمية لمشكلات دارفور وتجعل الانفصال هدفا لحركات التمرد في المناطق المهمشة, بحيث يمضي السودان الي المزيد من العنف ويتعرض لمخاطر المزيد من التفتت, ويغرق, لا قدرالله, وسط أحداث الفوضي والعنف, وهو أمر يمس دون شك مصالح مصر العليا ويشكل خطرا حالا علي أمنها الوطني, يتطلب رؤية مصرية سودانية أكثر قدرة علي تأمين مصالح البلدين الاستراتيجية تضع في اعتبارها عاملين أساسيين, أولهما الحيلولة دون مزيد من التدهور في أوضاع شمال السودان ومساعدته علي ترميم جبهته الداخلية كي يتمكن من الصمود في وجه تحديات عاصفة مقبلة, وثانيهما العمل علي تخفيف حدة التوتر الراهن في علاقات شمال السودان وجنوبه, وتهيئة فرص الحوار بين الجانبين في مناخ صحي يعزز مصالحهما المشتركة, ويمكنهما من إنجاز آلية واضحة لحل مشكلاتهما المعلقة, وتلك مهام ضرورية وحتمية ينبغي أن تنهض بها مصر حفاظا علي أمنها الوطني.وفي الخرطوم, تتزايد الدعوات الآن الي ضرورة العمل من أجل ربط السودان ومصر بأي من أشكال الوحدة حتي إن تكن وحدة كونفيدرالية, حفاظا علي أمن السودان من مؤامرة دولية واسعة تستهدف تفتيته كما تستهدف حصار مصر من الجنوب لاتزال مستمرة, وتلقي هذه الدعوات قبولا متزايدا داخل دوائر حزبي الاتحاد والأمة ووسط عدد من قيادات المجتمع السوداني, بينهم الشريف صديق الهندي الاتحادي البارز, والمهندس عبدالله مسار أحد قيادات حزب الأمة, والصحفي اللامع مصطفي أبوالعزايم الذي كان أول من أطلق هذه الصيحة صبيحة يوم العيد تجاوبا مع مقال مهم نشره الدكتور عبدالمنعم سعيد في الأهرام تحت عنوان نظرة أخري علي المسألة السودانية, يدعوفيه الي التفكير في حلول مبتكرة لما يواجه أمن مصر والسودان, اذا ما حدث انفصال الجنوب عن الشمال, ولست أشك في أن هذه الدعوة يمكن أن تجد أصداء طيبة في مصر التي ينتابها قلق عميق علي مستقبل السودان وأمنها الوطني والمائي في الجنوب, خاصة أن الجيل الذي عايش فكرة وحدة وادي النيل وتحمس لها كثيرا واعتبر الوحدة مع السودان هي أكثر صور الوحدة واقعية وحتمية ومصداقية يمسك بمفاتيح مواقع عديدة مؤثرة داخل مؤسسات الدولة والإعلام وبين قوي الأحزاب المختلفة, لكن تحويل فكرة لامعة تظهر في ظروف عاصفة صعبة الي مشروع سياسي شعبي ناجح, تتبناه المؤسسات الشعبية والحزبية في البلدين يتطلب قدرا كبيرا من صراحة الحوار والمواجهة علي جميع المستويات في البلدين, خاصة مع وجود اختلاف كبير في توجهات الحكم في البلدين, والالتباس الواضح في علاقة الدولة بالدين داخل حزب المؤتمر, فضلا عن المواقف المتغايرة لقوي دولية وإقليمية, بعيدة وقريبة, قد لا تتحمس كثيرا لأن يصل التقارب بين مصر والسودان الي أي شكل من أشكال الوحدة, إلا أن تصبح الوحدة مطلبا شعبيا جارفا في البلدين, يهيئ لها أسسا وقواعد صحيحة تبدأ من القاعدة وصولا الي القمة وليس العكس, حيث المصالح المشتركة للشعبين وتلتزم التدرج من التنسيق الي التعاون والتكامل وصولا الي الوحدة, وتنهض علي عمل مؤسسي شفاف تراقبه المجالس الشعبية للبلدين, لكن أيا تكن المصاعب التي تواجه هذا المشروع السياسي الشعبي والتحديات التي يفرضها عدم حماس قوي دولية عديدة لهذا المشروع, فإن الهدف صحيح حتي إن تكن الوحدة مجرد كونفيدرالية تحصن السودان من أخطار التفتت, وتحفظ لمصر عمقها الاستراتيجي وتواصلها مع العمق الإفريقي, وتغري جنوب السودان علي المحافظة علي روابطه مع الوطن الأم.{